صحراء بينتي تريس : السمارة
اطلعنا باهتمام بالغ على المقال الذي خطّه الدكتور سيدي علي ماءالعينين من نواكشوط، والمعنون بـ”هداية من حار في أمر السمارة”، وهو عنوان مقتبس من مخطوط “هداية لمن حار في أمر النصارى” للشيخ ماءالعينين، الذي ارتبط بمعركة الداخلة عام 1885. ويبدو، في نظرنا، أن هذا الاقتباس لم يكن موفقًا، إذ ينطوي على إسقاط غير مناسب، خاصة أن الأصل التاريخي للعنوان يحث على الجهاد ضد النصارى، مما قد يثير حساسيات ويُذكي نعرات لا طائل منها.
لقد قدّم صاحب المقال وصفًا لمداخلة أحد أعيان مدينة السمارة ورئيس مجلسها الإقليمي، والتي جاءت لتصحيح مغالطة تاريخية تكررت في عدد من المنابر الإعلامية، الوطنية والدولية. إلا أن ما يثير الاستغراب هو محاولة الكاتب إخراج هذه المداخلة من سياقها، من خلال وصف النساء الحاضرات بأنهن “متزيّنات”، وهو خروج غير مبرر عن النص، فضلًا عن إضفاء تأويلات سياسية ضيقة، من قبيل الادعاء بأن المتدخل كان مدفوعًا من قبل النساء لأغراض انتخابية.
والحقيقة أن ما صرّح به المتدخل، وهو من أعيان المدينة، يعكس رأيًا جامعًا يعبر عن كل مكونات المجتمع الصحراوي، ونساؤنا هن أمهاتنا وأخواتنا وتاج فوق رؤوسنا، وأي مساس بمكانتهن يُعد مساسًا بكرامة المجتمع بأكمله. ومن الواضح أن المقال كان محاولة لإفراغ النقاش من محتواه التاريخي، وإلباسه طابعًا سياسويًا يفتقر للموضوعية.
وفيما يتعلق بالموضوع المحوري، وهو: من أسّس مدينة السمارة؟ فلا خلاف على أن من موّل بناء الزاوية هو السلطان، غير أن هذا لا ينبغي أن يصرف النقاش عن الإطار التاريخي والاجتماعي الأوسع للمنطقة. فالمقال المذكور غني بالرموز والدلالات، ويعكس غيرة مشروعة على إرث الشيخالقطب ماءالعينين، الذي تحظى مكانته الدينية والعلمية بإجماع واسع، لدوره في الإصلاح والدعوة إلى الجهاد.
لكن، ومن باب الأمانة العلمية وصيانة الذاكرة الجماعية من الانتقائية، فإن الادعاء بأن منطقة الساقية الحمراء كانت خالية قبل قدوم الشيخ ماءالعينين هو ترويج غير مباشر لأطروحات استعمارية هدفت إلى إضفاء شرعية على الغزو الكولونيالي. والحق أن الوقائع التاريخية والأنثروبولوجية، كما وثّقها Beslay وCaratini وAttilio Gaudio، تؤكد أن الساقية الحمراء لم تكن يومًا فضاءً خاليًا، بل كانت مجالًا تتحرك فيه قبائل مستقرة منذ قرون، وعلى رأسها مكونات المجتمع الصحراوي المتنوعة، التي كانت تنتجع بين نهر السنغال جنوبًا وواد درعة شمالًا، ومن عرق شاش شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا.
وسنة 1868 لا تمثل بداية تاريخ المنطقة، بل إن الساقية الحمراء احتضنت كل وافد جاء باسم الجهاد والعلم، لكنها لم تقبل يومًا خطابات التسيد أو محاولات القفز على التاريخ. فمحاولة تقديم تاريخ عائلة وافدة في القرن التاسع عشر على أنه بداية تاريخ المنطقة، وتكريس وجودها في هذه الرقعة بدل المجال الموريتاني الذي قدمت منه، لا يُلغي البتة تاريخ وتواجد باقي مكونات الطيف الصحراوي وعلى رأسها قبائل الشرفاء الرقيبات. والمؤسف أن من فُرش له بالأمس الترحاب، وكان يُقاتَلُ الغريب لأجله، أصبح اليوم متحالفًا مع الغريب ضد القريب، وهو ما يكشف عن نوايا مبيتة تمسّ باللحمة الاجتماعية.
أما الشيخ ماءالعينين، القادم من شنقيط، فقد اختار ضفاف واد وين سلوان لبناء زاويته الأولى بالسمارة، حاملاً مشروعًا دينيًا وعلميًا نبيلًا. غير أن اختزال تاريخ السمارة في هذا الحدث، أو تقديمه كفعل تأسيسي وحيد، يتجاهل الحقيقة الاجتماعية التي سبقت قدومه. فالشنقيطي نفسه قال: “جاء الشيخ ماءالعينين إلى السمارة، وبنى زاوية، وغرس النخيل، وهي في الأصل أرض الركيبات”. فلماذا تُهمل هذه الشهادة؟ وإن ذُكرت، فلماذا تُبتر؟
ومن الأسئلة المحورية التي قد تُنهي هذا الجدل المفتعل: من سبق إلى المنطقة، الشيخ سيد أحمد الركيبي أم الشيخ ماءالعينين؟
أوليست روضتا سيد أحمد الركيبي وسيد أحمد العروسي شاهدتين على وجود سابق؟ أليست المقابر والمزارات أبلغ من أي وثيقة مكتوبة في دحض مقولة “الخلاء”؟ وتشير المرويات الشفوية إلى أن الشيخ ماءالعينين، قبل شروعه في بناء الزاوية، استأذن من أهل المنطقة الرقيبات.
فالاستقرار لا يعني بالضرورة الغياب السابق، ومفهوم “البناء” الذي يرتبط بالشيخ ماءالعينين لا يعني أنه أول من “عمّر” الأرض، بل أسّس لبنية علمية ودينية في فضاء اجتماعي كان قائمًا بالفعل. والقبائل الصحراوية لم تكن جمهورًا متفرجًا، بل كانت شريكًا أساسيًا في المقاومة، وفي احتضان مشاريع الزوايا والعلماء.
إن تناول تاريخ السمارة يجب أن يكون متزنًا، متوازنًا، لا يُقصي أحدًا. فالدقة تقتضي الاعتراف بأدوار الزوايا والسلط الروحية، كما تعترف بأدوار القبائل التي حافظت على الأمن، وأسهمت في المقاومة، وكانت الحاضنة الاجتماعية للمشروع الديني والعلمي.
أما تكرار الأخطاء البحثية التي تستهدف مكونًا واحدًا من مكونات المجتمع الصحراوي، فتارة باتهام الجدّ بالعقم، كما في فيلم وثائقي عرض بمدينة العيون، أو باتهام رموزه بالخيانة، أو بنفي انتمائهم الوطني، أو حصر السمارة في شخصية واحدة، فهو إما جهل بتاريخ المجال أو تحامل مقصود.
إن حفظ الذاكرة التاريخية يقتضي الاعتراف بكل روافدها، لا اجتزاءها لصالح طرف دون آخر. وبين الزاوية والمجتمع، كانت دائمًا علاقة شراكة وتكامل، لا تبعية وهيمنة.